مقاربات في سوسيولوجيا التربية
تستخدم سوسيولوجيا التربية مقاربات متعددة لدراسة الظاهرة التربوية في بعدها الاجتماعي التفاعلي مع مختلف المؤسسات التي توجه المنظومة التربوية. وتعني المقاربة في سوسيولوجيا التربية إسقاط النظريات السوسيولوجية على الواقع التربوي والتعليمي، من خلال دراسة وتحليل النماذج التربوية والطرق والتقنيات والأساليب التربوية، والقضايا والمشكلات، التي تطرح داخل المؤسسات التعليمية.
يمكن الحديث عن مقاربات مختلفة في سوسيولوجيا التربية تهتم كلها بدراسة الظاهرة التربوية من وجهة نظر معينة ومن ضمن هذه المقاربات نجد:
- المقاربة الإنسانية
- المقاربة الصراعية
- المقاربة التفسيرية
- المقاربة التفاعلية
- المقاربة الاقتصادية ونظرية الرأسمال البشري
- المقاربة الماكروسكوبية
وسيتم فيما يلي توضيح كل مقاربة على حدة:
1. المقاربة الإنسانية
يعتبر كل من إيمانويل كانط واميل دوركايم أحد رواد المقاربة الإنسانية في سوسيولوجيا التربية. تقوم هذه المقاربة على فكرة الفوارق الوراثية. بمعنى أن المدرسة توحد جميع المتمدرسين في تمثل المعايير الأخلاقية والاجتماعية بغية التكيف والتوافق مع المجتمع. وفي الوقت نفسه، تفرق المدرسة بين هؤلاء تقويما وانتقاء واصطفاء. فمن يمتلك القدرات الوراثية والملكات الفطرية، كالذكاء، والنجابة، والقدرات التعلمية الكفائية، ينتقى لتولية المناصب المتباري عليها، ولكن ليس اتكاء على المحسوبية والأصل والنسب، بل اعتمادا على المعايير العلمية الموضوعية، والإنجازات التقويمية المضبوطة. وعلى عكس المقاربة الصراعية تدافع فلسفة الأنوار عن التربية والتعليم لأثرهما التنويري والإشعاعي والعلمي والتأهيلي. ويتمثل هذا الموقف في آراء مفكري عصر الأنوار، مثل: كوندورسيهKondorcet، وكانط (Kant)، وجول فيريJules Ferry، حيث يرى هؤلاء أن المدرسة فضاء للتحرر والترقي وتحقيق المساواة، وأداة للتقدم والازدهار وبناء المستقبل، وسلاح مهم للقضاء على الأمية والجهل والتخلف. ويذهب إيمانويل كانط إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على التعلم، وبفضل هذا ينتقل من حالة التوحش إلى حالة المدنية والتحضر. كما أن الإنسان لا يمكنه أن يكون إنسانا إلا بالتعليم الذي يزود ه بكثير من الخبرات والتجارب والمعلومات والمعارف من جهة، ويزوده بمؤهلات كفائية متنوعة من جهة أخرى. ومن هنا فالذي لم يتعلم بعد، فهو كائن خام ومتوحش.
أما بالنسبة لإميل دوركايم فيرى أنه من الضروري أن تقوم المدرسة بدور عقلاني وذلك بتقديم المعارف والقيم، والحفاظ على المجتمع العلماني الديمقراطي، والدفاع عن ثوابته ونسقه الإيديولوجي. وبصيغة أخرى، إن النظام التربوي حسب دوركايم مطالب بعملية التطبيع والإعداد الاجتماعيين، وذلك بتشريب الأجيال القادمة مجموعة من القيم والمعايير والعادات والتقاليد والأعراف، بغية تأهيلهم للأدوار المنتظرة منهم في المستقبل.
من هنا تكون وظيفة المدرسة هي التنشئة الاجتماعية، وعملية التطبيع والمحافظة على القيم الموروثة. كما أنها تهدف إلى إدماج المتعلم في المجتمع، ثم إعطائه ثقافة كونية عقلانية وإنسانية. وترى الوظيفية الكلاسيكية أن النظام والتوازن يمثلان الحالة الاعتيادية للمجتمع، ويرتكز التوازن الاجتماعي على وجود إجماع أخلاقي بين أعضاء المجتمع. وقد كان لهذه النظرية إشعاع كبير في سنوات الخمسين من القرن الماضي.
وخير من يمثل هذه المقاربة إلى جانب الفرنسي إميل دوركايم، نجد الأمريكيان تلكوت بارسونز Talcott Parsons وروبرت ميرتونR.Merton على سبيل المثال. يدافع الاتجاه الوظيفي عن القيم البورجوازية والرأسمالية المحافظة، باعتبارها النظام الاقتصادي البديل الذي يؤدي إلى الحفاظ على ثوابت المجتمع وتماسكه اجتماعيا وطبقيا واقتصاديا ونفسيا.
2. المقاربة الصراعية
تهتم المقاربة الصراعية أو الراديكالية بنقد الواقع والمعارف الاجتماعية القائمة، من أجل تحقيق مجتمع عادل ومحاربة الاستلاب الفكري. وتذهب هذه المقاربة إلى أن المدرسة تستعمل كأداة للصراع الطبقي والسياسي والاجتماعي. كما أن المدرسة لا تنتقي من هو أكثر كفاية وإنتاجية بل من هو أكثر مطابقة ومسايرة لإيديولوجية الفئة التي تمتلك سلطة توجيه النظام التعليمي للمحافظة على امتيازاتها داخل المجتمع. ومن أبرز رواد هذه المقاربة نجد: بيير بورديو Pierre Bourdieu وبازل برنشتاين Basil Bernstein وجون كلود باسرونJean Claude Passeron . فهذه المقاربة تبحث في الجوانب السلبية للنظام التعليمي والتي قد تؤدي إلى تفكيك المجتمع. وفي هذا الإطار يرى الباحثون أن التربية والتعليم في ظل إيديولوجية معينة وإطار ثقافي سائد، قد يكون لها نصيب من الميز وعدم تكافؤ الفرص حسب العرق والمستوى المعيشي... إذا لم يتم اعتبار المعايير الموضوعية كمستوى القدرات والإنتاج والابداع... وبالتالي يصبح المستوى التعليمي آلية لإعادة إنتاج اللامساواة في المجتمع. ويتجلى هذا التمييز أيضا حينما يطلب أرباب العمل بعض الشروط التعجيزية أو المؤهلات العلمية التي قد لا تكون مهمة للمناصب المتبارى عليها حيث يتم إقصاء النساء أو بعض الأقليات. وبالرغم من أن هذه المقاربة استطاعت أن تبين وجها من وجوه مفارقات العلاقة بين التطور التربوي التعليمي ومثيله الاجتماعي. فإن من بين ما يؤخذ عليها أنها ركزت فقط على بعض المعطيات المرتبطة بسياسة الانتقاء والاصطفاء، مما جعل من الصعب تعميمها على جميع الأنظمة.
وفي هذا الاتجاه يرى بيير بورديو وكلود باسرون من خلال كتابهما (الورثة)، أن المدرسة فضاء للقهر والاستلاب والفوارق الاجتماعية والطبقية. فالمدرسة حسب هذه المقاربة تعد لنا الورثة، فأبناء الطبقات الشعبية يمتهنون مهن آبائهم. في حين يستفيد أبناء الطبقات الغنية أو الحاكمة من الامتيازات المهنية لآبائهم. أي: إن المدرسة لا توفر فرصا متعادلة أو متكافئة للجميع، فهناك لا مساواة ظاهرة. ومن هنا فالمدرسة الغربية الديمقراطية تمارس عنفا رمزيا ضد المتعلمين الذين ينحدرون من الطبقات الشعبية أو العمالية. وأكثر من هذا يتعرضون للإخفاق المدرسي، ويكون مستواهم ضعيفا، ويفتقرون إلى المعجم اللغوي والثقافي الراقي مقارنة بأبناء الطبقات الغنية أو الحاكمة الذين يستفيدون من النجاح والديبلومات الرفيعة التي تؤهلهم لتولي المناصب السامية، والحصول على الوظائف المتميزة في الدولة. ومن هنا، فالمدرسة حسب هذه المقاربة هي نتاج الثقافة المهيمنة، وتعبير عن مصالح الطبقة الحاكمة وأهوائها وامتيازاتها الطبقية.
3. المقاربة التفسيرية
إذا كانت المقاربة الصراعية قد اعتبرت المدرسة فضاء للصراع الاجتماعي والسياسي والطبقي، ومجالا لفرض قيم ومبادئ ذات خلفية إيديولوجية محددة
فإن المقاربة النموذجية أو التفسيرية تهتم بدراسة المنظومة التربوية من الخارج، وذلك برصد التأثيرات التي تمارسها المؤسسة التربوية ودورها في التغيير الاجتماعي. وترتكز هذه المقاربة في تفسيرها للظواهر التربوية على معطيات رياضية وإحصائية لرصد العلاقة بين المدرسة والحراك الاجتماعي المحيط بها. وقد بينت هذه المقاربة التفسيرية بأن العلاقة ليست واضحة ومحددة لأن هناك تدخل لعوامل أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار. ومن بين النماذج المعتمدة نجد النموذج الاحصائي لجنكز Jencks والنموذج النسقي لسوروكين Sorokin والنموذج التركيبي لريموند بودون R. Boudon
وإذا كانت المقاربات الصراعية تطرح النماذج النظرية حول الطريقة التي يعمل بها المجتمع برمته، فإن رواد نظرية الفعل الاجتماعي يركزون على تحليل الأسلوب الذي يتصرف به الأفراد أو يتفاعلون به فيما بينهم من جهة. وفيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى.
ويمثل هذا التوجه، في مجال التربية والتعليم، رايمون بودون (Boudon) الذي يرفض تصورات المقاربة الصراعية، على أساس أن المدرسة تعيد إنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها، وأنها فضاء للصراع بين الطبقة المهيمنة والطبقة الخاضعة.
وينفي رايمون بودون أن تكون هناك روابط قوية بين اللامساواة التعليمية واللامساواة الاجتماعية. بمعنى أن المجتمع ليس هو السبب في هذه اللامساواة التربوية، بل يعود ذلك إلى اختيارات الأفراد أنفسهم، وقناعاتهم الذاتية، وقراراتهم الشخصية، بناء على حسابات الأسر الخاضعة لمنطق الربح والخسارة، وطموحاتها الواقعية، ورغباتها المستقبلية.
4. المقاربة التفاعلية الرمزية
يعد ما كس فيبر من أبرز السوسيولوجيين الألمان الذين أخذوا بهذه المقاربة التي في ترجع جذورها إلى الفيلسوف الأمريكي جورج هربرت ميد (1863-1931م).
يذهب ماكس ويبرMax Weber إلى أن الأفراد يتصرفون وفقا لتمثلاتهم وتفسيراتهم الخاصة لعالمهم، كما يرى جورج هربرت ميد George Herbert Mead أن النظام الاجتماعي هو نتاج الأفعال التي يصدرها أفراد المجتمع. وتهدف السوسيولوجيا عند ماكس فيبر إلى فهم الفعل الاجتماعي وتأويله، ويقصد بالفعل سلوك الفرد أو الإنسان داخل المجتمع، مهما كان ذلك السلوك ظاهرا أو مضمرا، صادرا عن إرادة حرة أو كان نتاجا لأمر خارجي. ومن ثم، يتخذ هذا الفعل -أثناء التواصل والتفاعل -معنى ذاتيا لدى الآخر.
تهتم المقاربة التفاعلية الرمزية بتحليل الأنساق الاجتماعية خاصة الوحدات الصغرى. وفي المجال التربوي تركز النظرية التفاعلية الرمزية في دراستها للنظام التعليمي على الفصل الدراسي، باعتباره مكانا لحدوث الفعل الاجتماعي. فالعلاقة بالبرنامج الدراسي والتلاميذ والمدرس هي مظهر من مظاهر التفاعلات الاجتماعية.
وقد تم توجيه انتقادات صارمة لهذه المقاربة التفاعلية الرمزية لأنها لا تعطي أهمية كبيرة للعوامل الخارجية التي قد تؤثر بشكل كبير على التفاعلات الفردية داخل المجتمع. كما أنها تتناول النسق الاجتماعي وتدرس السلوكيات والأدوار الاجتماعية انطلاقا من الوحدات الصغرى ولا تعطي أهمية للمستوى الكلي أو الرؤية العامة للمجتمع.
5. المقاربة الاقتصادية ونظرية الرأسمال البشري
ظهرت هذه المقاربة ما بين سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي. وتذهب هذه المقاربة إلى أن التربية تساهم في التنمية الاقتصادية بتأهيل اليد العاملة وإعداد الأطر الملائمة.
بغية تحريك الاقتصاد، وتطوير المقاولات الصناعية والتقنية. وقد تقاطعت المقاربة الاقتصادية مع نظرية الرأسمال البشري في كون التربية استثمار منتج على المستوى الفردي والاجتماعي. لذلك يجب استغلال كفاءات الفرد إلى أقصى حد وفق ما تسمح به قدرات وحاجات المجتمع لكي لا تهدر الموارد البشرية الثمينة.
تقوم المقاربة الاقتصادية على مبادئ النظرية الوظيفية -التكنولوجية، التي وجدت للإجابة على مشاكل النمو الاجتماعي في الدول الصناعية. إذ التقدم التكنولوجي السريع والنمو الاقتصادي وما ترتب عنه من مشاكل اليد العاملة المؤهلة أدى إلى ظهور قناعتين أساسيتين:
- الأولى سياسية، وهي أن الانتشار الكبير للتربية والتعليم هو أحسن وسيلة لدولة تريد أن تكون ديمقراطية لكي تحد أو تقلل من التمايزات الصارخة المتجذرة في سلبيات الماضي، وتقلل كذلك من الفروق السوسيو-اقتصادية.
- والثانية اقتصادية، ومؤداها أن التربية تساهم في التنمية الاقتصادية بتأهيل اليد العاملة وإعداد الأطر الملائمة (نظرية الرأسمال الإنساني).
لكن سرعان ما تعرضت أطروحات التكنو-وظيفية ونظرية الرأسمال الإنساني إلى انتقادات حادة مدعمة بالأرقام والإحصائيات؛ مما جعل حماسها يفتر. ولقد بينت الدراسات الحديثة أن الطاقات البشرية لازالت تعاني من الهدر، على أساس غياب تناسق وانسجام بين النمو التكنولوجي والنمو التربوي. حيث أظهرت دراسة " دريبين(Dreeben)، أن النظام التعليمي الأمريكي ينمو بسرعة، أكثر مما تطلبه حاجيات المجتمع لليد العاملة. كما بينت دراسة أخرى أن العلاقة بين المستوى التعليمي والدخل علاقة غير قارة، بحيث إنها مرتبطة بسوق العمل وبالظروف أو بقطاع العمل، أكثر مما هي مرتبطة بالشهادات أو بالديبلومات.
6. المقاربة الماكروسكوبية
إذا كانت المقاربة الميكروسوسيولوجية تتناول المدرسة على أنها مجتمع مصغر. فإن المقاربة الماكروسوسيولوجية تتناول علاقة المدرسة بباقي التنظيمات المجتمعية الأخرى. وبالتالي فهي لا تهتم فقط بدراسة المؤسسة التربوية، بل تتعداها الى مختلف التفاعلات والعلاقات الاجتماعية التي تتحكم في تصرفات الفاعلين داخل المؤسسة التربوية.
تهتم المقاربة الماكروسوسيولوجية بدراسة إشكالية وظيفة المدرسة كمؤسسة اجتماعية ودراسة تأثير العوامل السوسيواقتصادية والسوسيوثقافية والسوسيولسانية على تمدرس التلاميذ في مختلف الطبقات الاجتماعية.
وقد قارب دوركايم الظواهر الاجتماعية من زاوية ماكروسوسيولوجية، حيث اعتبر بأن هذه الظواهر خارجة عن وعي الأفراد رغم انهم يساهمون في تكوينها وتمارس عليهم نوعا من القهر والالزام الاجتماعي. فظاهرة الانتحار على سبيل المثال ليست نتيجة أسباب عضوية أو سيكولوجية حسب دوركايم، بل نتيجة عوامل اجتماعية أي نتيجة الاكراه الاجتماعي الذي لا يستطيع الفرد أن يتحمله. وبالتالي يمكن القول بأن معرفة الفرد بنتائج فعله ليست رغبة نابعة من الذات، بل من الاكراهات الخارجية التي فرضت عليه، وجعلته يقدم على الانتحار وكأنه هروب من تلك القهرية التي تمارسها عليه المشاكل الاجتماعية.
المراجع
- عبد الله إبراهيم (2010) الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية.
- جميل حمداوي (2018)، سوسيولوجيا التربية، منشورات حمداوي الثقافية، الطبعة الأولى، تطوان.
- على الحوات (1979) أسس علم الاجتماع التربوي، جامعة الفاتح طرابلس، ليبيا.
- جون ديوي (1978) المدرسة والمجتمع، ترجمة أحمد حسن عبد الرحيم، دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، العراق.
- المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء. رؤية استراتيجية للإصلاح (2015-2030).
- Raymond Boudon. (1973). L'inégalité des chances. Paris : Armand Colin.
- Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron. (1964). Les héritiers : les étudiants et la culture. Paris : Les Éditions de Minuit.
- Mohamed Cherkaoui. (1979). Les Paradoxes de la réussite scolaire, Sociologie comparée des systèmes d’enseignement. Paris : PUF.
- Catherine Colliot-Thélène. (2006). La sociologie de Max Weber. Paris : La découverte.
- Emile Durkheim. (1974). L’éducation morale. Paris : P.U.F.
- Marie Duru-Bellat & Agnès Van Zanten. (2012). Sociologie de l’école (4e édition). Paris : Armand Colin.
- Roger Establet et Christian Baudelot. (1971). L'école capitaliste en France. Paris : Maspero.
- Edgar Morin. (1984). Sociologie. Paris : Fayard.
تعليقات
إرسال تعليق