نظريات التعلم - النظرية البنائية

 شكلت نظريات التعلم الإطار العام الذي يشمل الكثير من الحقائق والقوانين التي تتصل بتفسير ظاهرة التعلم سواء عند الإنسان أو الحيوان. إذ نجد الكثير من الباحثين الذين اهتموا برصد هذه الظاهرة من أمثال ثورندايك، بافلوف، سكينر، كوفكا، كوهلر، بياجي، وبرونر...وغيرهم.
لم يختلف العلماء على مركزية موضوع التعلم وأهميته في حياة الإنسان باعتباره أقدر الكائنات الحية على التعلم، لكنهم قدموا تفسيرات مختلفة ومتنوعة لهذه الظاهرة والتي ساهمت في إغناء الممارسة التربوية. ومن أبرز النظريات المرتبطة بهذا المجال نجد:
-     النظرية السلوكية Béhaviorisme
-    النظرية الجشطالتية Gestalt أو سيكولوجية الشكل Psychologie de la forme
-    النظرية البنائية Constructivisme
-    النظرية السوسيوبنائية Socioconstructivisme
-    النظرية المعرفية Cognitivisme

-    نظرية التعلم الاجتماعي L’apprentissage social


النظرية البنائية أو التكوينية


إن التقدم الذي أحرزه علم النفس في تفسير عملية التعلم واكتساب المعارف طرح الكثير من الاستفهامات حول مدى نجاح النظريات السلوكية والجشطالتية في فهم هذه الظاهرة. ولعل ما يؤاخذه البعض على هذه النظريات هو افتقارها إلى النظرة الارتقائية التي تجمع بين النضج أو النمو من جانب وبين العوامل البيئية من جانب آخر. ويعتبر بياجي أحد رواد هذا الاتجاه المعرفي، فالتعلم في رأيه نتاج للتفاعل بين العوامل البيولوجية والعوامل البيئية. والتعلم حسب بياجي ليس عملية ميكانيكية تقوم على أساس تخزين المعلومات في الذاكرة وإنما هو عملية نمائية ديناميكية تهدف إلى تحقيق التوازن Equilibration من خلال آلية الاستيعاب Assimilation والتلاؤم Accommodation  أو بمعنى آخر إن بناء أو تكوين المعرفة عند بياجي عملية وظيفية يجيب بواسطتها الفرد على سؤال أو مشكلة أو وضعية محددة.
 
 
 

1-المفاهيم الأساسية في نظرية بياجي

- التوازن
يعتبر التوازن بمثابة الدافع الكامن وراء كل نشاط فكري للقضاء على حالة التوتر والقلق التي يعيشها الفرد نتيجة تغيرات ظهرت في المحيط، وأنتجت لدى الفرد حاجة إلى المعرفة والفهم لتفسير ما طرأ من تغيرات على المحيط. وكل حالة توازن تليها حالة من اللاتوازن التي تتطلب حركية جديدة للعودة إلى التوازن. ولا يتم ذلك إلا من خلال عملية الاستيعاب والتلاؤم.
- الاستيعاب
الاستيعاب هو آلية سيكولوجية تمكن من استدماج المعطيات الخارجية وإدخالها للذهن حتى يتم فهمها وتأويلها وتفسيرها طبقا لما يتضمنه من بنيات فكرية متنوعة، لتخرج بالتالي في شكل معرفة.   
- التلاؤم
أما التلاؤم فيقصد به تلك الآلية التي تهدف إلى تحقيق نوع من التوافق بين المتعلم وشكل المعرفة المطلوبة، ولا يتم ذلك إلا من خلال تعديل أو تفسير أنشطته الفكرية حتى يصبح في مستوى فهم وتفسير ما يروج في المحيط الخارجي، وهذا الفهم والتوافق يؤدي إلى حصول نوع من التوازن الجديد.

2- مراحل النمو المعرفي عند بياجي

لقد حاول بياجي أن يرصد عملية التعلم من خلال مختلف التحولات الأساسية التي تطرأ على تفكير الفرد في مختلف مراحل العمر، حيث اعتبر أن لكل مرحلة خصائصها في التعامل مع موضوع المعرفة وهي تتحدد بطبيعة المرحلة النمائية التي يعيشها الفرد، وبطبيعة الإمكانات والأدوات الحسية والحركية والفكرية المتاحة في كل مرحلة.
من هنا نلاحظ بان المعرفة أو التعلم عند بياجي هو عملية وظيفية تخضع لنوع من الديالكتيك، فهي تبدأ من حالة اللاتوازن أو التوتر والقلق المعرفي، أي الإحساس بمشكلة معينة ومحاولة الإجابة عنها لتحقيق نوع من التوازن، ثم تبدأ مشكلة أخرى ليظهر معها قلق معرفي جديد وحالة من اللاتوازن تعقبها أيضا محاولات جديدة لتحقيق التوازن... وهكذا باستمرار.   
  وبناء على ذلك قسم بياجي النمو المعرفي إلى أربعة مراحل توازيها أربعة أنماط من التفكير وهي: المرحلة الحسية الحركية -المرحلة الماقبل إجرائية-المرحلة الإجرائية-المرحلة الصورية. فما هي إذن خصائص ومميزات كل مرحلة؟
- المرحلة الحسية الحركية: La phase sensori-motrice
وتبدأ من الولادة حتى السنة الثانية، وهي مرحلة نمائية تظهر فيها تنسيقات بين الحواس والحركات. وهو ما يساعد الوليد على تشكيل البذور الجنينية للصور الذهنية التي تمكن من الاشتغال التطبيقي والتمركز حول الذات. ففي هذه المرحلة يمكن ملاحظة الوليد في المهد وهو يكرر مجموعة من الحركات مثل لمس أشياء قريبة منه والضغط عليها بقوة أو إدخالها في فمه ومحاولة تحسسها، فهو يعالج كل الموضوعات المقدمة إليه معالجة حسية حركية.  
- المرحلة ما قبل الإجرائية: La phase préopératoire
وتبدأ من السنة الثانية أو الثالثة حتى السنة السادسة أو السابعة من عمر الطفل. وهي فترة نمو تظهر فيها خصائص التمركز حول الذات سيكولوجيا. مثال الشمس تقول لي صباح الخير، والقمر يرافقني ويمشي معي في كل مكان...فكل الأشياء فيها روح بالنسبة إليه وتكلمه وهو ما يعني ظهور النزعة الإحيائية لديه، كما أنه يعتبر نفسه محور العالم وكل الأشياء تدور في فلكه، يضاف إلى ذلك مجموعة من الأدوات الاستيعابية الجديدة مثل اللعب الرمزي والحركي، والتواصل المتنوع مع الآخرين. وفي هذه المرحلة يبقى الطفل مرتبطا بما يراه ويحسه ولا يستطيع بناء مفاهيم معقدة أو الدخول في متاهات منطقية بعيدة، ويستمر الطفل على هذه الحال حتى حدود السنة السابعة من عمره لينتقل إلى مرحلة أخرى.  
  - المرحلة الإجرائية أو المشخصة: La phase concrète  
تبدأ هذه المرحلة من سن السابعة أو الثامنة حتى سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة سنة.
زيادة على القدرات المكتسبة لدى الطفل سابقا تضاف قدرات جديدة تتمثل أساسا في بروز عمليات ذهنية قابلة للعكس تمكن الطفل من القيام بنشاط ما وبعكسه ذهنيا للعودة إلى نقطة الانطلاق، وليتوصل في النهاية إلى فكرة الاحتفاظ بخصائص الأشياء، مثل الطول، الحجم، الوزن، وهي فكرة كانت منعدمة في المراحل السابقة.
مثال فكرة الاحتفاظ: سكب كوب كبير من الماء في ثلاثة أكواب صغيرة يعرف الطفل ذهنيا أن الكمية لم تتغير بتغير الإناء لأنه يستطيع ذهنيا أن يعيد السائل من الأكواب الثلاثة إلى الكوب الأصلي، هذا على خلاف ما كان في المرحلة السابقة التي يميل فيها إلى تفضيل الأكواب الثلاثة على الكوب الأكبر اعتقادا منه أنه تحتوي كمية أكبر من السائل. ومن الأدوات الاستيعابية التي تسمح للطفل بتكيف أكبر مع محيطه جملة من العمليات الذهنية من بينها القدرة على الترتيب، القدرة على التصنيف، القدرة على القيام بالعمليات الزمانية والمكانية المختلفة....    
- المرحلة الصورية المجردة La phase formelle     
تبدأ هذه المرحلة من سن الثانية عشرة تقريبا، وتتميز بطغيان التجريد والتعميم الذي يميز عالم المراهق. حيث يبدأ في تجاوز العالم المحسوس وبناء الفرضيات واستنتاج المبادئ، بل أكثر من هذا فهو قادر على بناء قضايا وفرضيات أخرى انطلاقا من استنتاجات سابقة. وهذا ما يؤهله لمعرفة القوانين والنظم والنظريات والمعادلات والقياسات والنماذج وما يمكنه من تحقيق نموذجه الافتراضي.

3- بعض التطبيقات التربوية للنظرية البنائية

ربطت هذه النظرية التعلم بالنمو أو النضج، لكن ما يحكم هذا النمو دائما هو الميكانيزمات الداخلية (البيولوجية) للفرد والتي لا تتأثر إلا في حدود ضيقة بما هو خارجي. كما أنها أعادت الاعتبار للذات المتعلمة ولتمثلاتها السابقة في بناء واستكشاف المعارف، حيث أن المتعلم يقوم بدور فعال في بناء معارفه وليس مجرد متلقي سلبي. كما تؤكد هذه النظرية على أهمية الاستعداد في النشاط التعلمي، لأنه يكشف عن طبيعة القدرات والمهارات المتوفرة لدى المتعلم في أي مرحلة من مراحل التعلم. 


المراجع

  • أحمد أوزي (2015) التعليم والتعلم الفعال. منشورات مجلة علوم التربية العدد 39
  • سعيد بحيير (1996) علم النفس وقضايا الإنسان. الجزء الأول. كلية الآداب والعلوم الإنسانية. ظهر المهراز. فاس. 
  • سعيد بحيير (1996) علم النفس وقضايا الإنسان. كلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس.
  • سعيد بحيير(2005) الصحة النفسية واضطرابات الشخصية. سلسلة الاستشارة السيكولوجية والمساعدة التربوية. الكتاب الثاني. كلية الآداب والعلوم الإنسانية. جامعة سيدي محمد بن عبد الله. فاس
  • عبد الرحمن محمد عيسوي (1984) علم النفس الفسيولوجي دراسة في تفسير السلوك الإنساني. دار النهضة العربية للطباعة والنشر. بيروت.
  • عبد الكريم غريب وآخرون (1992) في طرق وتقنيات التعليم، من أسس المعرفة إلى أساليب تدريسها. سلسلة علوم التربية العدد 7
  • عطوف محمود ياسين (1981). مدخل في علم النفس الاجتماعي. دار النهار للنشر. بيروت.
  • الغالي أحرشاو(2008) السيكولوجيا الحديثة من المقاربة السلوكية إلى المقاربة المعرفية. سيكولوجية الطفل. مقاربات معرفية. منشورات مجلة علوم التربية.
  • الغالي أحرشاو. أحمد الزاهر(2000) التمدرس واكتساب المعارف عند الطفل. مجلة العلوم التربوية والنفسية. العدد الأول. كلية التربية. جامعة البحرين.
  • كريمة حليم (2000)"تمثلات النساء المتعلمات لتحرر المرأة". رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في علم النفس، تحت إشراف الدكتور سعيد بحيير. جامعة سيدي محمد بن عبد الله ظهر المهراز. فاس. 
  • Etienne Bourgeois (2008) les Théories de l’apprentissage. Un peu d’histoire. Apprendre et faire apprendre. Presses universitaire de France. 4em tirage
  • Le Ny J. F. (1980) Le conditionnement et L’apprentissage. Puf. Paris
  • Lieury, A. Fenouillet, F. (1997). Motivation et réussite scolaire. Dunod. Paris
  • Patrick Lemaire (2005) La psychologie cognitive. Collection ouvertures psychologiques. Ed De Boeck
  • Piaget J (1993). La naissance de l’intelligence chez l’enfant. Neuchâtel. Delachaux et Niestlé
  • Pierre-Henri François et André Botteman (2002). Théorie sociale cognitive de Bandura et bilan de compétences : Applications, recherches et perspectives   critiques. Carriérologie. Volume 8, Numéro 3 et 4. pp.519-543  
  • Linton R. (1980) Les fondements culturels de la personnalité. Dunod. Bordas. Paris
  • Skinner B. F. (1969). La révolution scientifique de l’enseignement. Dessart et Mardagat. Bruxelles
  • Yves Bertrand (2003).Théories contemporaines de l’éducation. Chronique Sociale. Lyon

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سوسيولوجيا المدرسة

مقاربات في سوسيولوجيا التربية

مقاربات في التدريس - المقاربة بالأهداف التربوية